فصل: تفسير الآية رقم (94)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 85‏]‏

‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ‏(‏84‏)‏ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ‏(‏85‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك‏}‏ نزلت في مواعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واعده موسم بدر الصغرى بعد حرب أُحد وذلك في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية فقاتل في سبيل الله يعني لا تدع جهاد العدو والانتصار للمستضعفين من المؤمنين لا تكلف إلا نفسك يعني لا تكلف فرض غيرك بل جاهد في سبيل الله ولو وحدك فإن الله ناصرك لا الجنود وقد وعدك النصر عليهم وهو لا يخلف الميعاد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكباً إلى بدر الصغرى فكفاهم الله القتال ورجعوا سالمين وعاتب الله من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على ترك الجهاد الخروج معه‏.‏ وفي الآية دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشجع الناس وأعلمهم بأمور القتال ومكايده لأن الله تعالى أمره بالقتال وحده ولو لم يكن أشجع الناس لما أمره بذلك، ولقد اقتدى به أبو بكر الصديق في قتال أهل الردة من بني حنيفة الذين منعوا الزكاة فعزم على الخروج إلى قتالهم ولو وحده ‏{‏وحرض المؤمنين‏}‏ يعني حضهم على الجهاد ورغبهم في الثواب وليس عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب لا التعنيف بهم ‏{‏عسى الله‏}‏ أي لعل الله ‏{‏أن يكف بأس الذين كفروا‏}‏ يعني لعل الله أن يمنع بأس الكفار وشدتم وقد فعل وذلك أن أبا سفيان بداله عن القتال فلم يخرج إلى الموعد ‏{‏والله أشد بأساً‏}‏ أي أعظم صولة ‏{‏وأشد تنكيلاً‏}‏ يعني وأشد عذاباً وعقوبة من غيره قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها‏}‏ الشفاعة مأخوذة من الشفع وهو أن يصير الإنسان بنفسه شفيعاً لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة إلى المشفوع إليه فعلى هذا قيل إن المراد بالشفاعة المذكورة في الآية هي شفاعة الإنسان لغيره ليجلب له بشفاعته نفعاً أو يخلصه من بلاء نزل به‏.‏ وقيل هي الإصلاح بين الناس وقيل معنى الاية من يصر شفعاً لوتر أصحابك يا محمد فيشفعهم في جهاد عدوهم يكن له نصيب منها أي حظ وافر من أجر شفاعته وهو ثواب الله وكرامته ‏{‏ومن يشفع شفاعة سيئة‏}‏ قيل هي النميمة ونقل الحديث لإيقاع العداوة بين الناس وقيل أراد بالشفاعة السيئة دعاء اليهود على المسلمين وقيل معناه من يشفع كفره بقتال المؤمنين ‏{‏يكن له كفل‏}‏ أي ضعف وقيل نصيب ‏{‏منها‏}‏ أي من وزرها ‏{‏وكان الله على كل شيء مقيتاً‏}‏ قال ابن عباس يعني مقتدراً أو مجازياً وأقات على الشيء قدر عليه قال الشاعر‏:‏

وذي ضغن كففت الشر عنه *** وكنت على إساءته مقيتا

يعني قادراً على الإساءة إليه وقيل معناه شاهداً أو حفيظاً على الأشياء ‏(‏ق‏)‏ عن أبي موسى قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً فجاء رجل يسأل فأقبل علينا بوجهه وقال‏:‏ «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء» وفي رواية كان إذا جاءه طالب حاجة أقبل على جلسائه وقال‏:‏ «اشفعوا تؤجروا» وذكره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 87‏]‏

‏{‏وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ‏(‏86‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها‏}‏ التحية تفعله من حيا وأصلها من الحياة ثم جعل السلام تحية لكونه خارجاً عن حصول الحياة وسبب الحياة في الدنيا أو في الآخرة والتحية أن يقال حياك الله أي جعل لك حياة وذلك أخبار ثم يجعل دعاء وهذه اللفظة كانت العرب تقولها فلما جاء الإسلام بدل ذلك بالسلام وهو المراد به في الآية يعني إذا سلم عليكم المسلم فأجيبوه بأحسن مما سلم عليكم به وإنما اختير لفظ السلام على لفظة حياك الله لأنه أتم وأحسن وأكمل لأن معنى السلام السلامة من الآفات فإذا دعا الإنسان بطول الحياة بغير سلامة كانت حياته مذمومة منغصة‏.‏ وإذا كان في حياته سليماً كان أتم وأكمل فلهذا السبب اختير لفظ السلام ‏{‏أو ردوها‏}‏ يعني أو ردوا عليه كما سلم عليكم ‏{‏إن الله كان على كل شيء حسيباً‏}‏ يعني محاسباً ومجازياً والمعنى أنه تعالى على كل شيء من رد السلام بمثله أو بأحسن منه مجاز‏.‏

فصل في فضل السلام والحث عليه

‏(‏ق‏)‏ عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» قوله أي الإسلام خير معناه أي خصال الإسلام خير ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» عن عبدالله بن سلام قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلّوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح عن أبي أمامة قال‏:‏ أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نفشي السلام، أخرجه ابن ماجه‏.‏

فصل في أحكام تتعلق بالسلام

وفيه مسائل‏:‏

المسألة الأولى في كيفية السلام‏:‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام قال اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا عليك السلام ورحمة الله فزادوه ورحمة الله» قال العلماء يستحب لمن يبتدئ بالسلام أن يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلم عليه واحد ويقول المجيب وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فيأتي بواو العطف في قوله وعليكم عن عمران بن حصين قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«عشر ثم جاء آخر فقال وعليكم السلام ورحمة الله فرد عليه فجلس فقال عشرون فجاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس فقال ثلاثون» أخرجه الترمذي‏.‏ وأبو داود وقال الترمذي حديث حسن وقيل إذا قال المسلم السلام عليكم فيقول المجيب وعليكم السلام ورحمة الله فيزيده ورحمة الله وإذا قال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله فيقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وإذا قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيرد عليه السلام بمثله ولا يزيد عليه وروي أن رجلاً سلم على ابن عباس فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم زاد شيئاً فقال ابن عباس ان السلام انتهى إلى البركة ويستحب للمسلم أن يرفع صوته بالسلام ليسمع المسلم عليه فيجيبه ويشترط أن يكون الرد على الفور فإن أخره ثم رد لم يعد جواباً وكان آثماً بترك الرد‏.‏

المسألة الثانية في حكم السلام‏:‏ الابتداء بالسلام سنة مستحبة ليس بواجب وهو سنة على الكفاية فإن كانوا جماعة فسلم واحد منهم كفى عن جميعهم ولو سلم كلهم كان أفضل وأكمل قال القاضي حسين‏:‏ من أصحاب الشافعي ليس لنا سنة على الكفاية إلاّ هذا وفيه نظر لأن تشميت العاطس سنة على الكفاية أيضاً كالسلام‏.‏ ولو دخل على جماعة في بيت أو مجلس أو مسجد وجب عليه أن يسلم على الحاضرين لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أفشوا السلام» والأمر للوجوب أو يكون ذلك سنة متأكدة لأن السلام من شعار أهل الإسلام فيجب إظهاره أو يتأكد استحبابه أما الرد على المسلم فقد أجمع العلماء على وجوبه ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏}‏ والأمر للوجوب لأن ترك الرد إهانة للمسلم فيجب ترك الإهانة فإن كان المسلم عليه واحداً وجب عليه الرد وإذا كانوا جماعة كان رد السلام في حقهم فرض كفاية فلو رد واحد منهم سقط فرض الرد عن الباقين وإن تركوه كلهم أثموا‏.‏ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدكم ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدكم» أخرجه أبو داود‏.‏

المسألة الثالثة في آداب السلام‏:‏ السنة أن يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير» وفي رواية للبخاري قال‏:‏ «من يسلّم الصغير على الكبير، والمار على القاعد والقليل على الكثير» وإذا تلاقى رجلان فالمبتدئ بالسلام هو الأفضل لما روي عن أبي أمامة الباهلي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إن أولى الناس بالله عز وجل من بدأهم بالسلام» أخرجه أبو داود والترمذي ولفظه قال قيل يا رسول الله الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام قال‏:‏ «أولاهما بالله» قال الترمذي حديث حسن ويستحب أن يبدأ بالسلام قبل الكلام والحاجة والسنة إذا مر بجماعة صبيان صغار أن يسلم عليهم لما روي عن أنس أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله أخرجاه في الصحيحين وفي رواية لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على غلمان يلعبون فسلم عليهم وأما السلام على النساء فإن كن جمعاً جالسات في مسجد أو موضع فيستحب أن يسلّم عليهن إذا لم يخف على نفسه أو عليهن فتنة لما روي عن أسماء بنت يزيد قالت مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلّم علينا أخرجه أبو داود وفي رواية الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في مسجد يوماً وعصبة من النساء قعود فألوى بيده للتسليم قال الترمذي حديث حسن وإذا مر على امرأة مفردة أجنبية فإن كانت جميلة فلا يسلم عليها ولو سلم فلا ترد هي عليه لأنه لم يستحق الرد وإن كانت عجوزاً لا يخاف عليه ولا عليها الفتنة سلم عليها وترد هي عليه وحكم النساء مع النساء كحكم الرجال مع الرجال في السلام فيسلم بعضهن على بعض‏.‏

المسالة الرابعة في الأحوال التي يكره السلام فيها‏:‏ فمن ذلك الذي يبول أو يتغوط أو يجامع ونحو ذلك لا يسلم عليه فلو سلم فلا يستحق المسلّم جواباً لما روي عن ابن عمر‏:‏ «أن رجلاً مر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول فسلم عيله فلم يرد عليه» أخرجه مسلم قال الترمذي إنما يكره إذا كان على الغائط أو البول ويكره التسليم على من في الحمام وقيل إن كانوا متزرين بالمآزر سلم عليهم وإلاّ فلا، ويكره التسليم على النائم والناعس والمصلي والمؤذن والتالي في حلال الصلاة والأذان والتلاوة ويكره الابتداء بالسلام في حال الخطبة لأن الجالسين مأمورون بالإنصات للخطبة ويكره أن يبدأ المبتدع بالتسليم عليه وكذلك المعلن بفسق وكذلك الظلمة ونحوهم فلا يسلم على هؤلاء‏.‏

المسألة الخامسة في حكم السلام على أهل الذمة‏:‏ اليهود والنصارى‏:‏ اختلف العلماء فيه فذهب أكثرهم إلى أنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام‏.‏ وقال بعضهم إنه ليس بحرام بل هو مكروه كراهة تنزيه ويدل على ذلك ما وري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» أخرجه مسلم وإذا سلم يهودي أو نصراني على مسلم فيرد عليه ويقول عليك بغير واو العطف، لما روي عن أنس أن يهودياً أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال السلام عليكم فرد عليه القول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«هل تدرون ما قال‏؟‏ قالوا الله ورسوله أعلم سلم يا بني الله قال لا ولكنه قال كذا وكذا ردوه على فردوه فقال‏:‏ قلت السلام عليكم قال‏:‏ نعم يا نبي الله فقال صلى الله عليه وسلم عند ذلك إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك أي عليك ما قلت» أخرجه الترمذي فلو أتى بواو العطف وميم الجمع فقال عليكم جاز لأنا نجاب عليهم في الدعاء ولا يجابون علينا ويدل على ذلك ما روي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه ناس من اليهود، فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقال‏:‏ «وعليكم» فقالت عائشة وغضبت ألم تسمع ما قالوا‏؟‏ قالوا بلى قد سمعت فرددت عليهم وأنا نجاب عليهم ولا يجيبون علينا أخرجه مسلم وإذا مر المسلم على جماعة فيهم مسلمون ويهود ونصارى يسلم عليهم ويقصد بتسليمه المسلمين لما روي عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلم عليهم أخرجه الترمذي‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلاّ هو ليجمعنكم‏}‏ هذه لام القسم تقديره والله الذي لا إله إلاّ هو ليجمعنكم الله في الموت وفي القبور ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏ يعني إلى يوم الحشر والبعث سميت القيامة لقيام الناس من قبورهم بعد الموت وقيل لقيامهم للحساب نزلت هذه الآية في منكري البعث ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ يعني لا شك في ذلك اليوم أنه كائن ‏{‏ومن أصدق من الله حديثاً‏}‏ يعني لا أحد أصدق من الله فإنه لا يخلف الميعاد ولا يجوز عليه الكذب والمعنى أن القيامة كائنة لا شك فيها ولا ريب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏}‏ اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقيل نزلت في الذين تخلفوا يوم أحد من المنافقين فلما رجعوا قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلهم يا رسول الله فإنهم منافقون وقال بعضهم أعف عنهم فإنهم قد تكلموا بكلمة الإسلام ‏(‏ق‏)‏ عن زيد بن ثابت قال لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُحد رجع ناس ممن خرج معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فئتين قال فرقة نقتلهم وقالت فرقة لا نقتلهم فنزلت فما لكم في المنافقين فئتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنها طيبة تنفي الرجال كما ينفي الكير خبث الحديد» وقيل نزلت في قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ثم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة فاختلف المسلمون فيهم فقائل يقول هم منافقون وقائل يقول هم مؤمنون وقيل نزلت في ناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا إلى المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين فلما بعدوا عن المدينة كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ولكنا اجتوينا المدينة واشتقنا إلى أرضنا ثم إنهم خرجوا في تجارة إلى الشام فبلغ ذلك المسلمين فقال بعضهم تخرج إليهم ونقتلهم ونأخذ ما معهم لأنهم رغبوا في ديننا وقالت طائفة منهم كيف تقتلون قوماً على دينكم وإن لم يذروا ديارهم‏.‏ وكان هذا بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساكت لا ينهي أحد الفريقين فنزلت هذه الآية وقيل نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين وقيل نزلت في عبدالله بن أبي سلول المنافق لما تكلم في حديث الإفك‏.‏ ومعنى الآية فما لكم يا معشر المؤمنين في المنافقين فئتين أي صرتم في أمرهم فرقتين فرقة تذب عنهم وفرقة تباينهم وتعاديهم فنهى الله الفرقة الذين يذبون عنهم وأمر المؤمنين جميعاً أن يكونوا على منهاج واحد في التباين لم والتبرئ منهم ثم أخبر عن كفرهم بقوله ‏{‏والله أركسهم‏}‏ يعني نكسهم في كفرهم وارتدادهم وردهم إلى أحكام الكفار ‏{‏بما كسبوا‏}‏ أي بسبب ما اكتسبوا من أعمالهم الخبيثة وقيل بما أظهروا من الأرتداد بعدما كانوا على النفاق ‏{‏أتريدون أن تهدوا من أضل الله‏}‏ هذا خطاب للفئة التي دافعت عن المنافقين والمعنى أتبتغون أيها المؤمنون هداية المنافقين الذين أصلهم الله عن الهدى ‏{‏ومن يضلل الله‏}‏ يعني عن الهدى ‏{‏فلن تجد له سبيلاً‏}‏ يعني فلن تجد له طريقاً تهديه فيها إلى الحق والهدى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 90‏]‏

‏{‏وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏89‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ‏(‏90‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ودوا‏}‏ يعني تمنى أولئك الذين رجعوا عن الإيمان إلى الإرتداد والكفر ‏{‏لو تكفرون‏}‏ يعني تكفرون أنتم يا معشر المؤمنين ‏{‏كما كفروا فتكونوا سواء‏}‏ في الكفر ‏{‏فلا تتخذوا منهم أولياء‏}‏ يعني من الكفار منع المؤمنين من موالاتهم ‏{‏حتى يهاجروا‏}‏ يعني يسلموا أو يهاجروا ‏{‏في سبيل الله‏}‏ معكم وهي هجرة أخرى والهجرة على ثلاثة أوجه‏:‏ الأولى هجرة المؤمنين في أول الإسلام من مكة إلى المدينة‏.‏ الثانية هجرة المؤمنين وهي الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله مخلصين صابرين محتبسين كما حكي الله عنهم وفي هذه الآية منع المؤمنين من موالاة المنافقين حتى يهاجروا والهجرة الثالثة هجرة المؤمنين ما نهي الله عنه بقوله ‏{‏فإن تولوا‏}‏ يعني فإن أعرضوا عن الإسلام والهجرة واختاروا الإقامة على الكفر ‏{‏فخذوهم‏}‏ الخطاب للمؤمنين أي خذوهم أيها المؤمنون ‏{‏واقتلوهم حيث وجدتموهم‏}‏ يعني إن وجدتموهم في الحل والحرم ‏{‏ولا تتخذوا منهم ولياً‏}‏ يعني في هذه الحالة ‏{‏ولا نصيراً‏}‏ يعني ينصركم على أعدائكم لأنهم أعداء ثم استثنى الله عز وجل طائفة منهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ هذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة الكفار والمنافقين لا تجوز بحال ومعنى يصلون ينتسبون إليهم أو ينتمون إليهم أو يدخلون معهم بالحلف والجوار‏.‏ وقال ابن عباس يريد يلجؤون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أي عهد وهم الأسلميون وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر الأسلمي عند خروجه إلى مكة على أن لا يعينه عليه ومن أصل إلى هلال من قومه وغيرهم ولجأ إليه فلهم الجوار مثل ما لهلال‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس قال‏:‏ أراد بالقوم الذي بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن مناة كانوا في الصلح والهدنة‏.‏ وقيل هم خزاعة والمعنى أن من دخل في عهد من كان داخلاً في عهدكم فهم أيضاً داخلون في عهدكم ‏{‏أو جاؤوكم حصرت صدورهم‏}‏ يحتمل أن يكون عطفاً على الذين وتقديره إلاّ الذين يتصلون بالمعاهدين أو يتصلون بالذين حصرت صدورهم فلا تقتلوهم وقيل يحتمل أن يكون عطفاً على صفة تقديره إلاّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم عهد أو يصلون إلى قوم حصرت صدورهم فلا تقتلوهم ومعنى حصرت أي ضاقت صدورهم عن المقاتلة فلا يريدون قتالكم لأنكم مسلمون ولا يريدون قتالهم لأنهم أقاربهم وهم بنو مدلج وكانوا عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشاً أن لا يقاتلوهم ‏{‏أن يقاتلوكم‏}‏ يعني ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم ‏{‏أو يقاتلوا قومهم‏}‏ يعني من آمن منهم وقيل معناه أنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ولا يقاتلون قومهم معكم فقد ضاقت صدورهم لذلك عن قتالكم والقتال معكم وهو قوم هلال الأسلميون وبنو بكر نهى الله عن قتال هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهد المسلمين لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد فله حكمهم في حقن الدم وذلك أن الله تعالى أوجب قتال الكفار إلاّ من كان معاهداً أو لجأ إلى معاهدة أو ترك القتال لأنه لا يجوز قتل هؤلاء وعلى هذا القول فالقول بالنسخ لازم لأن الكافر وإن ترك القتال فقتاله جائز وقال جماعة من المفسرين معاهدة المشركين وموادعتهم في هذه الاية منسوخة بآية السيف وذلك لأن الله تعالى لما أعز الإسلام وأهله أمر أن لا يقبل من مشركي العرب إلاّ الإسلام أو القتل ‏{‏ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم‏}‏ يذكر الله تعالى منته على المسلمين بكف بأس المعاهدين وذلك لما ألقى الله الرعب في قلوبهم وكفهم عن قتالكم ومعنى التسليط هنا تقوية قلوبهم على قتال المسلمين ولكن قذف الله الرعب في قلوبهم وكفهم عن المسلمين ‏{‏فإن اعتزلوكم‏}‏ يعني فإن اعتزلوكم عن قتالكم ‏{‏فلم يقاتلوكم‏}‏‏:‏ ويقال فلم يقاتلوكم يوم فتح مكة مع قومهم ‏{‏وألقوا إليكم السلم‏}‏ يعني الانقياد والصلح فانقادوا واستسلموا ‏{‏فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً‏}‏ يعني بالقتل والقتال قال بعض المفسرين هذا منسوخ بآية القتال وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ وقال بعضهم هي غير منسوخة لأنا إذا حملناها على المعاهدين فكيف يمكن أن يقال إنها منسوخة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏91‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ستجدون آخرين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هم أسد وغطفان كانوا من حاضري المدينة فتكلموا بكلمة الإسلام رياء وهم غير مسلمين وكان الرجل منهم يقول له قومه بماذا آمنت يقول آمنت بهذا القرد والعقوب والخنفساء وإذا لقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لهم إنا على دينكم يريدون بذلك الأمن من الفريقين وفي رواية أخرى عن ابن عباس إنها نزلت في بني عبد الدار وكانوا بهذه الصفة ‏{‏يريدون أن يأمنوكم‏}‏ يعني يريدون بإظهار الإيمان أن يأمنوكم فلا تتعرضوا لهم ‏{‏ويأمنوا قومهم‏}‏ يعني بإظهار الكفر لهم فلا يتعرضوا لهم ‏{‏كلما ردوا إلى الفتنة‏}‏ يعني كلما دعوا إلى الشرك ‏{‏أركسوا فيها‏}‏ رجعوا إلى الشرك وقادوا إليه منكوسين على رؤوسهم فيه ‏{‏فإن لم يعتزلوكم‏}‏ يعني فإن لم يكفوا عن قتالكم حتى يسيروا إلى مكة ‏{‏ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم‏}‏ أي ولم يلقوا الصلح ولم يكفوا عن قتالكم ‏{‏فخذوهم‏}‏ يعني أسرى ‏{‏واقتلوهم حيث ثقفتوهم‏}‏ يعني حيث أدركتموهم ‏{‏وأولئكم‏}‏ يعني أهل هذه الصفة ‏{‏جعلنا لكم عليهم سطاناً مبيناً‏}‏ يعني حجة ظاهرة بالقتل والقتال وقيل الحجة الواضحة هي ظهور عداوتهم وانكشاف حالهم بالكفر والعداوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏92‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ‏}‏ الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة فأسلم ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله فخرج هارباً إلى المدينة وتحصن في أطم من أطامها والأطم الحصن فجزعت أمه لذلك جزعاً شديداً، وقالت لابنها الحارث وأبي جهل ابني هشام وهما أخوا عياش بن أبي ربيعة لأمه والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتيان به فخرجا في طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أوتوا المدينة فأتوا عياشاً وهو في الأطم فقالوا‏:‏ أنزل فإن أمك لم يؤوها سقف بعدك وقد حلفت لا تأكل ولا تشرب حتى ترجع إليها ولك عهد تالله علينا أن نكرهك على شيء يحول بينك وبين دينك‏.‏ فلما ذكروا له جزع أمه وأوثقوه بنسعة وجلده كل واحد منهم مائة جلده ثم قدموا به على أمه فلما أتاها قالت لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به ثم تركوه موثقاً في الشمس ما شاء الله فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال‏:‏ يا عياش أهذا الذي كنت عليه لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقالته وقال والله لألقاك خالياً إلاّ قتلتك ثم إن عياشاً أسلم بعد ذلك وهاجر وأسلم الحارث بن زيد من بعده وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله وليس عياش حاضراً يومئذٍ ولم يشعر بإسلامه فبينا عياش يسير بظهر قباء إذ لقي الحارث فقتله فقال لهم ناس‏:‏ ويحك يا عياش أي شيء صنعت إنه قد اسلم فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إنه كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت وإني قد اشهر بإسلامه حتى قتلته فنزل وما كان لمؤمن ان يقتل مؤمناً إلا خطأ ومعنى الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً ألبته وكان كان له سبب جواز قتله وقيل معناه ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه وعهد إليه ففيه تحريم قتل المؤمن من كل وجه وقوله تعالى إلاّ خطأ استثناء منقطع معناه لكن إن وقع خطأ فتحرير رقبة‏.‏ وقيل معناه ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً البتة إلاّ أن يخطئ المؤمن فكفارة خطئه ما ذكر من بعد والخطأ فعل الشيء من غير قصد وتعمد ‏{‏ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ يعني فعليه إعتاق رقبة مؤمنة كفارة ‏{‏ودية مسلمة إلى أهله‏}‏ أي وعليه دية كاملة مسلمة إلى أهل القتيل الذين يرثونه ‏{‏إلاّ أن يصدقوا‏}‏ يعني إلاّ أن يتصدق أهل القتيل على القاتل بالدية ويعفو عنه ‏{‏فإن كان‏}‏ يعني المقتول ‏{‏من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ أراد أنه إذا كان رجل مسلم في جار الحرب وهو منفرد مع قوم كفار فقتله من لم يعلم بإسلامه فلا دية عليه الكفارة وقيل المراد منه إنه إذا كان المقتول مسلماً في دار الإسلام وهو من نسب قوم كفار وأهله الذين يرثونه في دار الحرب وهم حرب للمسلمين ففيه كفارة ولا دية لأهله وكان الحارث بن زيد من قوم كفار حرب للمسلمين فكان فيه الكفارة تحرير رقبة مؤمنة دون الدية لأنه لم يكن بين قومه وبين المسلمين عهد ‏{‏وإن كان قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ أي عهد ‏{‏فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ يعني أنه إذا كان المقتول كافراً معاهداً أو ذميماً فتجب فيه الدية والكفارة ‏{‏فمن لم يجد الرقبة‏}‏ فصيام شهرين متتابعين أي فعليه صيام شهرين متتابعين بدلاً عن الرقبة ‏{‏توبة من الله‏}‏ يعني جعل الله ذلك توبة لقاتل الخطأ ‏{‏وكان الله عليماً‏}‏ يعني بمن قتل خطأ ‏{‏حكيماً‏}‏ يعني فيما حكم به عليه من الدية والكفارة‏.‏

فصل في أحكام تتعلق بالآية

وفيه مسائل‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ في بيان صفة القتل‏:‏ قال الشافعي‏:‏ القتل على ثلاثة أقسام‏:‏ عمد وشبه عمد وخطأ، أما العمد المحض فهو أن يقصد قتل إنسان بما يقتل به غالباً فقتل به ففيه القصاص عند وجود التكافؤ أو دية حالة مغلظة في مال القاتل‏.‏ وأما شبه العمد فهو أن يقصد ضرب إنسان بما لا يقتل بمثله غالباً مثل أن ضربه بعصا خفيفة أو رماه بحجر صغير فمات فلا قصاص عليه وتجب عليه دية مغلظة على عائلته مؤجلة إلى ثلاث سنين‏.‏ وأما الخطأ المحض فهو أن لا يقصد قتله بل قصد شيئاً آخر فأصابه فمات منه فلا قصاص عليه وتجب فيه دية مخففة على عاقلته مؤجلاً إلى ثلاث سنين ومن صور قتل الخطأ أن يقصد رمي مشرك أو كافر فيصيب مسلماً أو يقصد قتل إنسان يظنه مشركاً بأن كان عليه لباس المشركين أو شعارهم فالصورة الأولى خطأ في الفعل والثانية خطأ في القصد‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ في حكم الديات‏:‏ فدية الحر المسلم مئة من الإبل فإذا عدمت الإبل فتجب قيمتها من الدراهم أو الدنانير في قول وفي قول بدل مقدر وهو ألف دينار أو أثنا ألف درهم ويدل على ذلك ما روي عن عبدالله بن عمرو بن العاص‏.‏ قال كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم قال وكانت دية أهل الكتاب يومئذٍ على النصف من دية المسلم فكانت كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيباً فقال إن الإبل قد غلت فقرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة قال‏:‏ وترك دية أهل الكتاب فلم يرفعها فيما رفع من الدية أخرجه أبو داود فذهب قوم إلى ان الواجب في الدية مائة من الإبل والف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو قول عروة بن الزبير والحسن البصري وبه قال الشافعي وذهب قوم إلى أنها من الإبل أو ألف دينار أو عشرة آلاف درهم وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي ودية المرأة نصف دية الذكر الحر ودية أهل الذمة والعهد ثلث دية المسلم إن كان كتابياً وإن كان مجوسياً فخمس الثلث ثمانمائة درهم وهو قول سعيد بن المسيب‏.‏

وإليه ذهب الشافعي وذهب قوم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دية المسلم روي ذلك عن ابن مسعود وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي وقال قوم دية الذمي نصف دية المسلم وهو قوم عمر بن عبدالعزيز وبه قال مالك وأحمد والأصل في ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «دية المعاهد نصف دية الحر» أخرجه أبو داود وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى أخرجه النسائي فمن ذهب إلى أن دية أهل الذمة ثلث دية المسلم أجاب عن هذا الحديث بأن الأصل في ذلك كان النصف ثم رفعت زمن عمر دية المسلم، ولم ترفع دية الذمي فبقيت على أصلها وهو قدر الثلث من دية المسلمين والدية في قتل العمد وشبه العمد مغلظة فتجب ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون في بطونها أولادها‏.‏ وهذا قول عمر وزيد بن ثابت وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقه ثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد العقل» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وعن عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال‏:‏ «ألا وإن قتيل العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل أربعون ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفه» وفي رواية أخرى «ألا إن كل قتيل خطأ العمد أو شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل فيها أربعون في بطونها أولادها»

أخرجه النسائي وذهب قوم إلى أن الدية المغلظة أرباع خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون وخمس عشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وعشرون جذعة وهذا قول الزهري وربيعة وإليه ذهب مالك وأحمد وأصحاب الرأي‏.‏ وأما دية الخطأ فمخففة وهي أخماس بالاتفاق غير أنهم اختلفوا في تقسيمها فذهب قوم إلى أنها عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وهذا قول عمر بن عبدالعزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة وبه قال مالك والشافعي وأبدل قوم أبناء اللبون ببنات المخاض يرون ذلك عن ابن مسعود وبه قال أحمد وأصحاب الرأي والدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة وهم العصيات من الذكور ولا يجب على الجاني منها شيء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها على العاقلة ودية الأعضاء والأطراف حكمها مبين في كتب الفقه ودية أعضاء المرأة على النصف من دية أعضاء الرجل والله أعلم‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ في حكم الكفارة‏:‏ الكفارة إعتاق رقبة مؤمنة وتجب في مال القاتل سواء كان المقتول مسلماً أو معاهداً رجلاً كان أو امرأة حراً كان أو عبداً فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين فالقاتل إن كان واجداً للرقبة أو قادراً على تحصيلها بوجود الثمن فاضلاً عن نفقته ونفقة عياله وحاجته من مسكن ونحوه فعليه الإعتاق‏.‏ ولا يجوز له أن ينتقل إلى الصوم فمن عجز عن الرقبة أو عن تحصيل ثمنها فعليه صوم شهرين متتابعين فإن أفطر يوماً متعمداً في خلال الشهرين أو نسي النية أو نوى صوماً آخر وجب عليه استئناف الشهرين وإن أفطر يوماً بعذر مرض أو سفر هل ينقطع التابع‏؟‏ اخلتف العلماء فيه فمنهم من قال ينقطع التتابع وعليه استئناف الشهرين وهو قول النخعي وأظهر قولي الشافعي لأنه أفطر مختاراً‏.‏ ومنهم من قال لا ينقطع التتابع وعليه أن يبني وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي ولو حاضت المرأة في خلال الشهرين فطرت أيام الحيض ولا ينقطع التتابع فإذا طهرت بنت لأنه أمر كتبه الله على النساء ولا يمكن الاحتراز عنه فإن عجز عن الصوم فهل ينتقل عنه إلى الإطعام فيطعم ستين مسكيناً ففيه قولان‏:‏ أحدهما أنه ينتقل إلى الإطعام كما في كفارة الظهار‏.‏ والثاني لا ينتقل لأن الله تعالى لم يذكر له بدلاً فقال فصيام شهرين متتابعين توبة من الله فنص على الصوم وجعل ذلك عقوبة لقتل الخطأ والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم‏}‏ نزلت في مقيس بن صبابة الكناني وكان قد أسلم هو وأخوه هشام فوجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن صبابة أن تدفعوه إلى أخيه مقيس فيتقص منه وأنت لم تعلموه ادفعوا إليه ديته فبلغهم الفهري ذلك فقالوا سمعاً وطاعة لله ولرسوله ما نعلم له قاتلاً ولكن نؤدي إليه ديته فأعطوه مائة من الإبل فانصرفا راجعين نحو المدينة فأتى الشيطان مقيساً فوسوس إليه فقال له‏:‏ تقبل دية أخيك لتكون عليك سبة أقتل الفهري الذي معك فتكون نفس مكان وفضل الدية فتغفل الفهري فرماه بصخرة فقتله ثم ركب بعيراً من الإبل وساق بقيتها راجعاً إلى مكة كافراً وقال في ذلك‏:‏

قتلت به فهراً وحملت عقله *** سراة بني النجار أرباب قارع

وأدركت ثأري واضطجعت موسداً *** وكنت إلى الأصنام أول راجع

فنزلت فيه ومن يقتل مؤمناً متعمداً يعني قاصداً لقتله فجزاؤه جهنم ‏{‏خالداً فيها‏}‏ يعني بكفره وارتداده وهو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عمن أمنه من أهلها فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة ‏{‏وغضب الله عليه‏}‏ يعني لأجل كفره وقتله المؤمن متعمداً ‏{‏ولعنه‏}‏ يعني طرده عن رحمته ‏{‏وأعد له عذاباً عظيماً‏}‏ اختلف العلماء في حكم هذه الآية هل هي منسوخة أم لا‏؟‏ وهل لمن قتل مؤمناً متعمداً توبة‏؟‏ أم لا فروي عن سعيد بن جبير قال قالت لابن عباس ألمن قتل مؤمناً متعمداً من توبة قال لا‏؟‏ فتاوت عليه الآية التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر‏:‏ ‏{‏ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلاّ بالحق‏}‏ إلى آخر الاية قال هذه آية مكية نسختها آية مدنية، ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم وفي رواية قال اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن فرحلت إلى ابن عباس قال نزلت في آخر ما نزل ولم ينسخها شيء وفي رواية أخرى‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية بالمدينة والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر إلى قوله مهاناً فقال المشركون وما يعني عنا الإسلام وقد عدلنا بالله وقد قتلنا النفس التي رحم الله وأتينا الفواحش فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً‏}‏ إلى آخر الآية زاد في رواية فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه ناظر ابن عباس في هذه الاية فقال من أين لك أنها محكمة‏؟‏ فقال ابن عباس تكاثف الوعيد فيها وقال ابن مسعود إنها محكمة وما تزداد إلاّ شدة وعن خارجة بن زيد قال سمعت زبيد بن ثابت يقول أنزلت هذه الآية ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها بعد التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله بالحق بستة أشهر‏.‏

أخرجه أبو داود وزاد النسائي في رواية أشهر بثمانية أشهر‏.‏ وقال زيد بن ثابت لما نزلت هذه الاية التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة وأراد بالغليظة هذه الآية التي في سورة النساء وباللينة آية الفرقان‏.‏ وذهب الأكثرون من علماء السلف والخلف إلى أن هذه الآية منسوخة واختلفوا في ناسخها‏.‏ فقال بعضهم نسختها التي في الفرقان وليس هذا القول بالقوي لأن آية الفرقان نزلت قبل آية النساء والمتقدم لا ينسخ المتأخر وذهب جمهور من قال بالنسخ إلى أن ناسخها الاية التي في النساء أيضاً وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ وأجاب من ذهب إلى أنها منسوخة عن حديث ابن عباس المتقدم المخرج في الصحيحين بأن هذه الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل ذلك الأمر المذكور في الآية والنسخ لا يدخل الإخبار ولئن سلمنا أنه يدخلها النسخ لكن الجمع بين الآيتين ممكن، بحيث لا يكون بينهما تعارض، وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على تقييد آية الفرقان فيكون المعنى فجزاؤه جهنم إلاّ من تاب وقال بعضهم ما ورد عن ابن عباس إنما هو على سبيل التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل فهو كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال إن لم يقتل يقال له لا توبة لك وإن قتل ثم ندم وجاء تائباً يقال له لك توبة وقيل إنه قد روي عن ابن عباس مثله وروي عنه ايضاً أن توبته تقبل وهو قول أهل السنة ويدل عليه الكتاب والسنة‏.‏ أما الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً‏}‏ ثم اهتدى وقوله إن الله يغفر الذنوب جميعاً وأما السنة فما روي عن جابر بن عبدالله قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما الموجبتان‏؟‏ قال‏:‏ «من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ومن مات يشرك به شيئاً دخل النار» أخرجه مسلم ‏(‏ق‏)‏ عن عبادة بن الصامت قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تبايعوني على أن تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق وفي رواية ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبة فبايعناه على ذلك‏.‏

فصل

وقد تعلقت المعتزلة والوعيدية بهذه الآية لصحة مذهبهم على أن الفاسق يخلد في النار وأجاب علماء بأن الآية نزلت في كافر قتل مسلماً وهو مقيس بن صبابة فتكون الآية على هذا مخصوصة‏.‏ وقيل هذا الوعيد لمن قتل مسلماً مستحلاً لقتله ومن استحل قتل مسلم كان كافراً وهو مخلد في النار بسبب كفره وعن أبي مجلز في قوله تعالى ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم‏.‏ قال‏:‏ هي جزاؤه فإن شاء الله أن يتجاوز عن جزائه فعل أخرجه أبو داود‏.‏ وقيل إن الخلود لا يقتضي التأبيد بل معناه دوام الحالة التي هو عليها ويدل عليه قول العرب للأيام خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها وإذا ذكر الخلود في حق الكفار قرنه بذكر التأبيد كقوله خالدين فيها أبداً فإذا قرن الخلود بهذه اللفظة علم أن المراد منه الدوام الذي لا ينقطع إذا ثبت هذا كان معنى الخلود المذكور في الآية أن الله تعالى يعذب قاتل المؤمن عمداً في النار إلى حيث يشاء الله ثم يخرجه منها بفضل رحمته كرمه‏.‏ فإنه قد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحيحة إخراج جميع الموحدين من النار وقيل إن قاتل المؤمن عمداً عدوانا إذا تاب قبلت توبته بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ولأن الكفر أعظم من هذا القتل وتوبة الكافر من كفره مقبولة بدليل قوله‏:‏ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإذا كانت التوبة من الكفر مقبولة فلأن تقبل من القاتل أولى والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏94‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا‏}‏ الآية قال ابن عباس‏:‏ نزلت في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك وكان من أهل فدك لم يسلم من قومه غيره فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا منه، وأقام ذلك الرجل المسلم فلما رأى الخيل خاف أن لا يكون مسلمين فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو الجبل، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون فعرف أنهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر ونزل وهو يقول لا إله إلاّ الله محمد صلى الله عليه وسلم السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد بسيفه فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً، وكان قد سبقهم الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أقتلتموه إرادة ما معه‏؟‏» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد هذه الآية فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله فقال «كيف أنت بلا إله إلاّ الله‏؟‏» يقولها ثلاث مرات قال أسامة فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلاّ يومئذٍ ثم استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ اعتق رقبة وروى أبو ظبيان عن أسامة قال‏:‏ قلت يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح فقال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفاً أم لا‏؟‏ وفي رواية عن ابن عباس قال مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غنم فسلم عليهم، فقالوا إنما سلم عليكم ليتعوذ منكم فقاموا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله‏}‏ يعني إذا سافرتم إلى الجهاد فتبينوا من البيان يقال تبينت الأمر إذا تأملته قبل الإقدام عيه وقرئ فتثبتوا من التثبت وهو خلاف العجلة والمعنى فقفوا وتثبتوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر وتعرفوا حقيقة الأمر الذي تقدمون عليه ‏{‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام‏}‏ يعني التحية يعني لا تقوموا لمن حياكم بهذه التحية أنه إنما قالها تعوذا فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا ماله ولكن كفوا عنه وأقبلوا منه ما أظهره لكم وقرئ السلم بفتح السين من غير ألف ومعناه الاستسلام والانقياد أي استسلم وانقاد لكم وقال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله وقيل السلام والسلم بمعنى واحد أي لا تقولوا لمن سلم عليكم ‏{‏لست مؤمناً‏}‏ يعني لست من أهل الإيمان فتقتلوه بذلك قال العلماء‏:‏ إذا رأى الغزاة ف بلد او قرية أو حي من العرب شعار الإسلام يجب إن يكفوا عنهم ولا يغيروا عليهم لما روي عن عصام المزني قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشاً أو سرية يقول لهم إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا أحد أخرجه أبو داود والترمذي‏:‏ وقال اكثر الفقهاء لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن لا يحكم بأيمانه لأنه يدعي أن الذي هو عليه إيمان ولو قال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله فعند بعض العلماء لا يحكم حتى يتبرأ من دينه الذي كان عليه ويعترف أنه دين باطل وذلك لأن بعض اليهود يزعم أن محمداً رسول العرب خاصة لا أنه رسول إلى كافة الخلق؛ فإذا اعترف أنه رسول إلى كافة الخلق وأن كان عليه من التهود أو التنصر باطل صح إسلامه وحكم بصحته وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبتغون عرض الحياة الدنيا‏}‏ يعني تطلبون الغنيمة التي هي من حطام الدنيا سريعة النفاد والذهاب وعرض الدنيا منافعها ومتاعها ‏{‏فعند الله مغانم كثيرة‏}‏ أي غنائم كثيرة من رزقه يغنمكوها يغنيكم بها عن قتل من يظهر الإسلام ويتعوذ به‏.‏

وقيل معناه فعند الله ثواب كثير لمن اتقى قتل المؤمن ‏{‏كذلك كنتم من قبل‏}‏ يعني كان كان هذا الذي ألقى إليكم السلام فقلتم له لست مؤمناً فقتلتموه كنتم أنتم من قبل يعني من قبل أن يعز الله دينه كنتم تستخفون أنتم بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه بدينه من قومه حذراً على نفسه منهم، وقيل معناه كذلك كنتم تأمنون في قومكم بهذه الكلمة فلا تحقروا من قالها ولا تقتلوه وقيل معناه كذلك كنتم من قبل مشركين ‏{‏فمن الله عليكم‏}‏ يعني بالإسلام والهداية فلا تقتلوا من قال لا إله إلاّ الله وقيل معناه من عليكم بإعلان الإسلام بعد الإختفاء، وقيل من عليكم بالتوبة ‏{‏فتبينوا‏}‏ أي ولا تعجلوا بقتل مؤمن وهو تأكيد للأمر بالتبين ‏{‏إن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ يعني فلا تتهاونوا في القتل وكونوا متحرزين من ذلك محتاطين فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏95‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم‏}‏ الآية ‏(‏خ‏)‏ عن زيد بن ثابت قال‏:‏ «أملى عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم»‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم‏}‏ فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ فقال‏:‏ والله يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت على حتى خفت أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله عز وجل غير أولى الضرر ‏(‏ق‏)‏ عن البراء بن عازب‏:‏ لما نزلت ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين‏}‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً فجاء بكتف فكتبها وشكا ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر‏}‏ وفي رواية أخرى‏:‏ لما نزلت لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال النبي صلى الله عليه وسلم «ادعوا فلاناً فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف فقال اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله» وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن مكتوم فقال يا رسول الله أنا ضرير فنزلت مكانها لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله هذه الرواية الثانية أخرجها ابن الأثير في كتابه جامع الأصول، وأضافها إلى البخاري ومسلم ولم أجدها في كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي‏.‏ وفي هذه الآية فضل الجهاد في سبيل الله من المؤمنين المجاهدين في سبيل الله غير أولي الضرر يعني أولى الزمانة والضعف في البدن والبصر فإنهم يساوون المجاهدين لأن العذر أقعدهم عن الجهاد ‏(‏م‏)‏ عن جابر قال‏:‏ «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بالمدينة رجالاً ماسرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلاّ كانوا معكم حبسهم المرض» ‏(‏خ‏)‏ عن أنس قال‏:‏ «رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أقواماً خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلاّ وهم معنا حبسهم العذر» ‏(‏خ‏)‏ عن ابن عباس قال لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إليها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة‏}‏ يعني فضيلة في الآخرة قال ابن عباس‏:‏ أراد بالقاعدين هنا أولي الضرر فضل الله المجاهدين على أولي الضرر درجة لأن المجاهد باشر الجهاد بنفسه وماله مع النية وأولو الضرر لهم نية ولم يباشروا الجهاد فنزلوا عن المجاهدين درجة ‏{‏وكلاًّ‏}‏ يعني كلاًّ من المجاهدين والقاعدين ‏{‏وعد الله الحسنى‏}‏ يعني الجنة بإيمانهم ‏{‏وفضل الله المجاهدين‏}‏ يعني في سبيل الله ‏{‏على القاعدين‏}‏ يعني الذين لا عذر لهم ولا ضرر ‏{‏أجراً عظيماً‏}‏ يعني ثواباً جزيلاً‏.‏ ثم فسر ذلك الأجر العظيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏درجات منه‏}‏ قال قتادة‏:‏ كان يقال للإسلام درجة والهجرة في الإسلام درجة الجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة، وقال ابن زيد الدرجات هي سبع وهي التي ذكرها الله في سورة براءة حين قال‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا يقطعون وادياً إلاّ كتب الله لهم‏}‏ وقال ابن محيريز الدرجات سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة ‏(‏م‏)‏ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً وجبت له الجنة فتعجب لها أبو سعيد فقال أعدها علي يا رسول الله فأعادها عليه ثم قال وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال وما هي يا رسول الله‏؟‏ قال الجهاد في سبيل الله» ‏(‏خ‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج كان حقاً على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها فقالوا أولاً نبشر الناس بقولك‏؟‏ فقال إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجير أنهار الجنة» فإن قلت قد ذكر الله عز وجل في الآية الأولى درجة واحدة وذكر في هذه الآية درجات فما وجه الحكمة في ذلك‏؟‏ قلت أما الدرجة الأولى فلتفضيل المجاهدين على القاعدين بوجود الضرر والعذر‏.‏ وأما الثانية فلتفضيل المجاهدين على القاعدين من غير ضرر ولا عذر فضلوا عليهم بدرجات كثيرة وقيل يحتمل أن تكون الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم والدرجات درجات الجنة ومنازلها كما في الحديث والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومغفرة‏}‏ يعني لذنوبهم يسترها ويصفح عنها ‏{‏ورحمة‏}‏ يعني رأفة بهم ‏{‏وكان الله غفوراً‏}‏ يعني لذنوب عباده المؤمنين رحيماً يعني بهم يتفضل عليهم برحمته ومغفرته عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال‏:‏ قال‏:‏ «أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيل الله ابتغاء مرضاتي ضمنت له إن أرجعته أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة وأن قبضته غفرت له ورحمته» أخرجه النسائي‏.‏

فصل

اعلم أن الجهاد ينقسم إلى‏:‏ فرض عين وفرض كفاية، ففرض العين أن يدخل العدو دار قوم من المؤمنين وبلادهم فيجب على كل مكلف من الرجال ممن لا عذر له ولا ضرر به من أهل تلك البلدة الخروج إلى عدوهم دفعاً عن أنفسهم وعن أهليهم وجيرانهم وسواء في ذلك الحر والعبد والغني والفقير فيجب على الكافة وهو في حق من بعد عنهم من المسلمين فرض كفاية فإن لم تقع الكفاية بمن نزل بهم العدو فتجب مساعدتهم على من قرب منهم من المسلمين أو بعد عنهم، وإن وقعت الكفاية بالمنزول بهم فلا فرض على الأبعدين إلا على طريق الاختبار ولا يدخل في هذا الفرض يعني فرض الكفاية الفقراء والعبيد، وإذا كان الكفار قادرين في بلادهم فعلى الإمام أن لا يخلي كل سنة من غزاة يغزوهم فيها إما بنفسه أو سراياه حتى لا يبطل الجهاد والاختبار‏.‏ والمطيق الجهاد مع وقوع الكفاية بغيره لا يقعد عنه ولكن لا يفرض عليه لأن الله تعالى وعد المجاهدين والقاعدين الثواب بقوله‏:‏ ‏{‏وكلاًّ وعد الله الحسنى‏}‏ ولو كان فرضاً على الكافة لاستحق القاعدون عن الجهاد العقاب لا الثواب والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏97‏)‏ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ الآية‏:‏ نزلت في أناس تكلموا الإسلام ولم يهاجروا منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم فقتلوا مع الكفار فأنزل الله تعالى هذه الآية ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة‏}‏ يعني ملك الموت وأعوانه وهم ستة‏:‏ ثلاثة منهم يلون قبض أرواح المؤمنين وثلاثة يلون قبض أرواح الكفار‏.‏ وقيل أراد به ملك الموت وحده وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم كما يخاطب الواحد بلفظ الجمع وفي التوفي هنا قولان‏:‏ أحدهما أنه قبض أرواحهم‏.‏ الثاني حشرهم إلى النار فعلى القول الثاني يكون المراد بالملائكة الزبانية الذين يلون تعذيب الكفار ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏ يعني بالشرك وقيل بالمقام في دار الشرك وذلك لأن الله تعالى لم يقبل الإسلام من أحد بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يهاجر إليه ثم نسخ ذلك فتح مكة بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» أخرجاه في الصحيحين وقيل ظالمي أنفسهم بخروجهم مع المشركين يوم بدر وتكثير سوادهم حتى قتلوا معهم فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ‏{‏قالوا فيم كنتم‏}‏ سؤال توبيخ وتقريع يعني قالت الملائكة‏:‏ لهؤلاء الذين قتلوا في أي الفريقين كنتم أفي فريق المسلمين أم في فريق المشركين فاعتذروا بالضعف عن مقاومة المشركين وهو قوله تعالى إخباراً عنهم‏:‏ ‏{‏قالوا كنا مستضعفين‏}‏ يعني عاجزين ‏{‏في الأرض‏}‏ يعني في أرض مكة ‏{‏قالوا‏}‏ يعني قال لهم الملائكة ‏{‏ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها‏}‏ يعني إلى المدينة وتخرجوا من بين أظهر المشركين فأكذبهم الله في قولهم كنا مستضعفين وأعلمنا بكذبهم ‏{‏فأولئك‏}‏ يعني من هذه صفتهم ‏{‏مأواهم‏}‏ يعني منزلهم ‏{‏جهنم وساءت مصيراً‏}‏ يعني بئس المصير مصيرهم إلى جهنم ثم استثنى أهل الهذر ومن علم ضعفه منهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة‏}‏ يعني لا يقدرون على حيلة ولا نفقة ولا قوة لهم على الخروج من مكة ‏{‏ولا يهتدون سبيلاً‏}‏ يعني ولا يعرفون طريقاً يسلكونه من مكة إلى المدينة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏99‏)‏ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏فأولئك‏}‏ يعني المستضعفين وأهل الأعذار ‏{‏عسى الله أن يعفو عنهم‏}‏ يعني يتجاوز عنهم بفضله وإحسانه وعسى من الله واجب إطماع وترج والله تعالى إذا أطمع عبداً وصله ‏{‏وكان الله عفواً غفوراً‏}‏ قال ابن عباس كنت أنا وأمي ممن عذر الله يعني من المستضعفين؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين في الصلاة ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال لما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الثانية قال‏:‏ «اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة‏}‏ قال الزجاج معنى مراغماً مهاجراً يعني يجد في الأرض مهاجراً يعني أن المهاجر لقومه والمراغم لها بمنزلة واحدة‏.‏ وإن اختلف اللفظان وهو مأخوذ من الرغام وهو التراب يقال رغم أنفه إذا التصق بالتراب وذلك لأن الأنف عضو شريف والتراب ذليل حقير فجعلوا قولهم رغم أنفه كناية عن حصول الذل له ويقال راغمت فلاناً بمعنى هجرته وعاديته ولم أبال به رغم أنفه ويقوي ذلك قول بعض أهل اللغة هو الخروج من بلاد العدو برغم أنفه‏.‏ وقيل معناه أن الرجل إذا خرج عن قومه خرج مراغماً لهم أي مغاضباً لهم ومقاطعاً وقال الفراء المراغم المضطرب والمذهب في الأرض وأنشد الزجاج في المعنى‏:‏

إلى بلد غير داني المحل *** بعيد المراغم والمضطرب

فعلى هذا يكون معنى الآية يجد مذهباً يذهب إليه إذا رأى ما يكرهه هذا قول أهل اللغة في معنى المراغمة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يجد متحولاً يتحول إليه من أرض إلى أرض، وقال مجاهد يجد متزحزحاً عما يكره وقيل يجد منقلباً ينقلب إليه وقيل المراغمة والمهاجرة واحدة يقال‏:‏ راغمت قومي أي هاجرتهم وسميت المهاجرة مراغمة لأنه يهاجر قومه برغمهم‏.‏ وقوله وسعة يعني في الرزق‏.‏ وقيل يجد سعة من الضلالة إلى الهدى وقيل يجد سعة في الأرض التي يهاجر إليها قال ابن عباس‏:‏ لما نزلت الاية التي قبل هذه سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير مريض يقال له جندع بن ضمرة فقال‏:‏ والله ما أنا ممن استثنى الله عز وجل وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني إلى المدينة وأبعد منها والله لا أبيت الليلة بمكة أخرجوني فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به النعيم فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال‏:‏ اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك رسولك ثم مات فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لو وافى المدينة لكان أتم وأوفى أجراً وضحك المشركون، وقالوا ما أدرك ما طلب فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت‏}‏ يعني قبل بلوغه إلى مهاجره ‏{‏فقد وقع أجره على الله‏}‏ يعني فقد وجب أجر هجرته على الله بإيجابه على نفسه بحكم الوعد والتفضل والكرام لا وجوب استحقاق وتحتم قال بعض العلماء ويدخل في حكم الآية من قصد فعل طاعة من الطاعات ثم عجز إتمامها كتب الله له ثواب تلك الطاعة كاملاً وقال بعضهم إنما يكتب له أجر ذلك القدر الذي عمل وأتى به، أما تمام الأجر فلا والقول الأول أصح لأن الآية إنما نزلت في معرض الترغيب في الهجرة وأن من قصدها ولم يبلغها بل مات دونها فقد حصل له ثواب الهجرة كاملاً فكذلك كل من قصد فعل طاعة ولم يقدر على إتمامها كتب الله له ثوابها كاملاً ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ يعني ويغفر الله له ما كان منه من القعود قبل الهجرة إلى أن خرج مهاجراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض‏}‏ يعني إذا سافرتم فيها ‏{‏فليس عليكم جناح‏}‏ أي حرج وإثم ‏{‏أن تقصروا من الصلاة‏}‏ يعني من أربع ركعات إلى ركعتين وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء، وأصل القصر في اللغة التضييق وقيل هو ضم الشيء إلى أصله‏.‏ وفسر ابن الجوزي القصر بالنقص ولم أره لأحد من أهل التفسير واللغة وقيل معنى قصر الصلاة جعلها قصيرة بترك بعض ركعاتها أو بعض أركانها ترخيصاً ولهذا السبب ذكروا في تفسير قصر الصلاة المذكورة في الآية قولين‏:‏ أحدهما أنه في عدد الركعات وهو رد الصلاة الرباعية إلى ركعتين والقول الثاني أن المراد بالقصر إدخال التخفيف في أدائها وهو أن يكتفي بالإيماء والإشارة عن الركوع والسجود‏.‏ والقول الأول أصح ويدل عليه لفظة من في قوله أن تقصروا من الصلاة ولفظه من هنا للتبعيض وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض الصلاة فثبت بهذا أن تفسير القصر بإسقاط بعض ركعات الصلاة أولى ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم‏}‏ يعني يغتالكم ويقتلكم في الصلاة ‏{‏الذين كفروا‏}‏ ذهب داود الظاهري إلى أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف واستدل على صحة مذهبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ ولأن عدم الشرط يقتضي عدم المشروط فعلى هذا لا يجوز القصر عند الأمن ولا يجوز رفع هذا الشرط بخبر الآحاد لأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر واحد، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن القصر في حال الأمن في السفر جائز ويدل عليه ما روي عن يعلى بن أمية‏.‏ قال‏:‏ قلت لعمر بن الخطاب ليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال‏:‏ «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» أخرجه مسلم وعن عبدالله بن خالد بن أسيد أنه قال لابن عمر كيف تقصرون الصلاة وإنما قال الله تعالى ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقال ابن عمر يا ابن أخي‏:‏ «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا ونحن في ضلال فعلنما فكان فيما علمنا أن أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر»‏.‏ أخرج النسائي وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين فصلى ركعتين أخرجه الترمذي والنسائي وأجاب الجمهور عن قوله تعالى إن خفتم أن كلمة إن تفيد حصول الشرط ولا يلزم عند عدم الشرط عدم المشروط فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن خفتم‏}‏ يقتضي أن عند عدم الخوف لا تحصل رخصة القصر‏.‏

وإذا كان كذلك كانت الآية ساكتة عن حال الأمن فإثبات الرخصة حال الأمن بخبر الواحد يكون إثباتاً لحكم سكت عنه القرآن وذلك غير ممتنع إنما الممتنع إثبات الحكم بخبر الواحد على خلاف ما دل عليه القرآن‏.‏ فإن قلت إذا كان هذا الحكم ثابتاً في حال في حال الأمن والخوف؛ فما فائدة تقييده بحال الخوف‏؟‏ قلت إنما نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرها لم يخل عن خوف العدو فذكر الله عز وجل هذا الشرط من حيث إنه الأغلب في الوقوع‏.‏ وقوله تعالى‏.‏ ‏{‏إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً‏}‏ أي ظاهر العداوة فلعلمي بهذا رخصت لكم في قصر الصلاة لئلا يجدوا إلى قتلكم واغتيالكم سبيلاً وإنما قال عدواً ولم يقل أعداء لأنه يستوي فيه الواحد والجمع‏.‏

فصل في أحكام تتعلق بالآية

وفيه مسائل‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ في حكم القصر قصر الصلاة في حالة السفر جائز بإجماع الأمة وإنما اختلفوا في جواز الإتمام في حال السفر فذهب أكثر العلماء إلى أن القصر واجب في السفر وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس وبه قال الحسن وعمر بن عبدالعزيز وقتادة وهو قول مالك وأبي حنيفة ويدل عليه ما روي عن عائشة قالت فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى‏.‏ وفي رواية أخرى قالت‏:‏ فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر أخرجاه في الصحيحين وذهب قوم إلى جواز الإتمام في السفر، ولكن القصر أفضل يروى ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص وإليه ذهب الشافعي وأحمد وهو رواية عن مالك أيضاً‏.‏ ويدل على ذلك ما روى البغوي بسند الشافعي عن عائشة قالت‏:‏ كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر وأتم وعن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت‏؟‏ قال أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ أخرجه النسائي وظاهر القرآن يدل على ذلك لأن الله تعالى قال فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ولفظة ولا جناح إنما تستعمل في الرخصة لا فيما يكون حتماً، وأجيب عن حديث عائشة فرض الله الصلاة ركعتين بأن معناه فرضت ركعتين أولاً وزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار عليها وثبت جواز الإتمام بدليل آخر فوجب المصير إليه ليمكن الجمع بين الأحاديث ودلائل الشرع‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ اختلف في صلاة المسافر إذا صلى ركعتين ركعتين هل هي مقصورة أم غير مقصورة فذهب قوم إلى أنها غير مقصورة وإنما فرض صلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر يروى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبدالله وإليه ذهب سعيد بن جبير والسدي وأبو حنيفة فعلى هذا يكون معنى القصر المذكور في الآية هو تخفيف ركوعها وسجودها‏.‏

وقد تقدم الجواب عنه وذهب قوم إلى أنها مقصورة وليست بأصل، وهو قول مجاهد وطاوس، وإليه ذهب الشافعي وأحمد‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ ذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور، إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح وشرط بعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد أو سفر طاعة، ولا يجوز القصر في سفر المعصية، وقال أبو حنيفة والثوري يجوز ذلك‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ اختلف العلماء في مسافة القصر فقال داود أهل الظاهر يجوز القصر في قصير السفر وطويله وروي ذلك عن أنس أيضاً وقال عمرو بن دينار قال لي جابر بن زيد أقصر بعرفة‏.‏ وأما عامة أهل العلم فإنهم لا يجوزون القصر في السفر القصير واختلفوا في حد الطويل الذي يجوز فيه القصر‏.‏ فقال الأوزاعي مسيرة يوم وكان ابن عمرو وابن عباس يقصران ويفطران في مسيرة أربعة برد هي ستة عشر فرسخاً وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق وقول الحسن والزهري قريب من ذلك فإنهما قالا مسيرة يومين، وإليه ذهب الشافعي فقال مسيرة ليلتين قاصدتين ستة عشر فرسخاً كل فرسخ ثلاثة أميال فتكون ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمي والميل ستة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون أصبعاً معترضة معتدلة والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات، وقال الثوري وأبو حنيفة وأهل الكوفة لا قصر في أقل من ثلاثة أيام‏.‏

فصل

قيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ كلام متصل بما بعده منفصل عما قبله وتقديره وإن خفتم روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ هذا القدر ثم بعد حول سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً وإذا كنت فيهم‏}‏ الآية ومثل هذا في القرآن كثير يجيء الخبر بتمامه ثم ينسق عليه خبر آخر هو في الظاهر كالمتصل به وهو منفصل عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ الآية روي عن ابن عباس وجابر أن المشركين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جميعاً ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقال بعضهم لبعض دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم يعني صلاة العصر فإذا قاموا فشدوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد إنها صلاة الخوف وإن الله عز وجل يقول إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فعلمه صلاة الخوف وروي عن أبي عياش الزرقي في سبب نزول هذه الاية‏.‏ قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلّينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا غرة وفي رواية غفلة ولو حملنا عليهم وهم في الصلاة فنزلت الآية بين الظهر والعصر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏ هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني وإذا كنت يا محمد في أصحابك وشهدت معهم القتال فأقمت لهم الصلاة ‏{‏فلتقم طائفة منهم معك‏}‏ يعني إذا حان وقت الصلاة وأقمتها لأصحابك فاجعلهم فرقتين فلتقف فرقة منهم معك فتصلّي بهم ‏{‏وليأخذوا أسلحتهم‏}‏ اختلفوا في هؤلاء الذين أمرهم الله بأخذ السلاح فقيل أراد بهم الذين قاموا معه إلى الصلاة فإنهم يأخذون أسلحتهم في الصلاة، فعلى هذا القول إنما يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة ولا يؤذي به من إلى جنبه كالسيف والخنجر وذلك لأنه أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم فإن كان السلاح يشغل بحركته وثقله عن الصلاة كالترس الكبير أو يؤذي مَن إلى جنبه كالرمح فلا يأخذه‏.‏ وقيل أراد بهم الطائفة الذين بقوا في وجه العدو فإنهم يأخذون أسلحتهم للحراسة وقيل يحتمل أن يكون أمراً للفريقين بحمل السلاح لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط ‏{‏فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم‏}‏ يعني إذا صلّى الذين معك وفرغوا من الصلاة فليكونوا من ورائكم يعني فلينصرفوا إلى المكان الذي هو في وجه العدو وللحراسة ‏{‏ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا‏}‏ يعني ولتأت الطائفة التي كان في وجه العدو ‏{‏فليصلّوا معك‏}‏ الركعة الثانية التي بقيت عليك ويتموا بقية صلاتهم ‏{‏وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم‏}‏ يعني أن الله تعالى جعل الحذر وهو التحرز والتيقظ آلة يستعملها الغازي في دفع العدو فلذلك جعله مأخوذاً مع السلاح‏.‏ فإن قلت لم ذكر في أول الآية الأسلحة فقط وذكر هنا الحذر والأسلحة‏.‏ قلت لأن العدو قلما ينتبه للمسلمين في أول الصلاة بل يظنون كونهم قائمين في المحاربة والمقاتلة فإذا قاموا على الركعة الثانية ظهر للكفار أن المسلمين في الصلاة فحينئذٍ ينتهزون الفرصة في الإقدام على المسلمين فلا جرم أن الله تعالى أمرهم في هذا الموضع بزيادة الحذر من الكفار مع أخذ الأسلحة ‏{‏ود الذين كفروا‏}‏ يعني تمنى الكفار ‏{‏لو تغفلون‏}‏ يعني لو وجدوكم غافلين ‏{‏عن أسلحتكم وأمتعتكم‏}‏ يعني حوائجكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها ‏{‏فيميلون عليكم ميلة واحدة‏}‏ يعني فيقصدونكم ويحملون عليكم حملة واحدة وأنتم مشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم فيصيبون منكم غرة فيقتلونكم‏.‏